فصل: الْبَابُ السَّادِسَ عَشَرَ: فِي الْحِمَى وَالْأَرْفَاقِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأحكام السلطانية والسياسة الدينية والولايات الشرعية



.فَصْلٌ فِي الْآبَارِ وَأَحْكَامِهَا:

وَأَمَّا الْآبَارُ فَلِحَافِرِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَحْفِرَهَا لِسَابِلَةٍ فَيَكُونُ مَاؤُهَا مُشْتَرَكًا وَحَافِرُهَا فِيهِ كَأَحَدِهِمْ.
قَدْ وَقَفَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِئْرَ رُومَةَ فَكَانَ يَضْرِبُ بِدَلْوِهِ مَعَ النَّاسِ، وَيَشْتَرِكُ فِي مَائِهَا إذَا اتَّسَعَ شُرْبَ الْحَيَوَانِ وَسَقْيَ الزَّرْعِ، فَإِنْ ضَاقَ مَاؤُهَا عَنْهُمَا كَانَ شُرْبُ الْحَيَوَانِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الزَّرْعِ وَيَشْتَرِكُ فِيهَا الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ، فَإِنْ ضَاقَ عَنْهُمَا كَانَ الْآدَمِيُّونَ بِمَائِهَا أَحَقَّ مِنْ الْبَهَائِمِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَحْتَفِرَهَا لِارْتِفَاقِهِ بِمَائِهَا كَالْبَادِيَةِ إذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا وَحَفَرُوا فِيهَا بِئْرًا لِشُرْبِهِمْ وَشُرْبِ مَوَاشِيهِمْ كَانُوا أَحَقَّ بِمَائِهَا مَا أَقَامُوا عَلَيْهَا فِي نُجْعَتِهِمْ وَعَلَيْهِمْ بَذْلُ الْفَضْلِ مِنْ مَائِهَا لِلشَّارِبِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ فَإِذَا ارْتَحَلُوا عَنْهَا صَارَتْ الْبِئْرُ سَابِلَةً فَتَكُونُ خَاصَّةَ الِابْتِدَاءِ وَعَامَّةَ الِانْتِهَاءِ، فَإِنْ عَادُوا إلَيْهَا بَعْدَ الِارْتِحَالِ عَنْهَا كَانُوا هُمْ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءً فِيهَا، وَيَكُونُ السَّابِقُ إلَيْهَا أَحَقَّ بِهَا.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْتَفِرَهَا لِنَفْسِهِ مِلْكًا فَمَا لَمْ يَبْلُغْ الْحَفْرُ إلَى اسْتِنْبَاطِ مَائِهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا اسْتَنْبَطَ مَاءَهَا اسْتَقَرَّ مِلْكًا بِكَمَالِ الْإِحْيَاءِ إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى طَيٍّ فَيَكُونُ طَيُّهَا مِنْ كَمَالِ الْإِحْيَاءِ وَاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ ثُمَّ يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا وَلِحَرِيمِهَا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ حَرِيمِهَا؛ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي مِثْلِهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَرِيمُ الْبِئْرِ لِلنَّاضِحِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: حَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا إلَّا أَنْ يَكُونَ رِشَاؤُهَا أَبْعَدَ فَيَكُونُ لَهَا مُنْتَهَى رِشَائِهَا.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَهَذِهِ مَقَادِيرُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ، فَإِنْ جَاءَهَا نَصٌّ كَانَ مُتَّبَعًا، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْلُولٌ وَلِلتَّقْدِيرِ بِمُنْتَهَى الرِّشَاءِ وَجْهٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ وَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْعُرْفِ الْمُعْتَبَرِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى الْبِئْرِ وَحَرِيمِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِمَائِهَا.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَصِيرُ مَالِكًا لَهُ قَبْلَ اسْتِقَائِهِ وَحِيَازَتِهِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى مِلْكِهِ فِي قَرَارِهِ قَبْلَ حِيَازَتِهِ؛ كَمَا إذَا مَلَكَ مَعْدِنًا مَلَكَ مَا فِيهِ قَبْلَ أَخْذِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ اسْتِقَائِهِ، وَمَنْ اتَّقَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ اسْتَرْجَعَ مِنْهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بَعْدَ الْحِيَازَةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِاسْتِقَائِهِ، فَإِنْ غَلَبَهُ مِنْ اسْتِقَاءٍ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِذَا اسْتَقَرَّ حُكْمُ هَذِهِ الْبِئْرِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِمِلْكِهَا وَاسْتِحْقَاقِهِ لِمَائِهَا فَلَهُ سَقْيُ مَوَاشِيهِ وَزَرْعِهِ وَنَخِيلِهِ وَأَشْجَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ كِفَايَتِهِ فَضْلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا لِمُضْطَرٍّ عَلَى نَفْسٍ.
وَرَوَى الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى أَهْلَ مَاءٍ فَاسْتَسْقَاهُمْ فَلَمْ يَسْقُوهُ حَتَّى مَاتَ فَأَغْرَمَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدِّيَةَ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ بَعْدَ كِفَايَتِهِ فَضْلٌ لَزِمَهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَبْذُلَ فَضْلَ مَائِهِ لِلشَّارِبَةِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي وَالْحَيَوَانِ دُونَ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ.
وَقَالَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ جُرْثُومَةَ لَا يَلْزَمْهُ بَذْلُ الْفَضْلِ مِنْهُ لِحَيَوَانٍ وَلَا زَرْعٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ لِلْحَيَوَانِ دُونَ الزَّرْعِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ وُجُوبِ بَذْلِهِ لِلْحَيَوَانِ دُونَ الزَّرْعِ هُوَ الْمَشْرُوعُ.
رَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ فَضْلَ الْكَلَأِ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَبَذْلُ هَذَا الْفَضْلِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ فِي قَرَارِ الْبِئْرِ، فَإِنْ اسْتَقَاهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِكَلَأٍ يَرْعَى، فَإِنْ لَمْ يَقْرُبْ مِنْ الْكَلَأِ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا تَجِدَ الْمَوَاشِي غَيْرَهُ، فَإِنْ وَجَدَتْ مُبَاحًا غَيْرَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ وَعَدَلَتْ الْمَوَاشِي إلَى الْمَاءِ الْمُبَاحِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ الْمَوْجُودِ مَمْلُوكًا لَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَالِكِي الْمَاءَيْنِ أَنْ يَبْذُلَ فَضْلَ مَائِهِ لِمَنْ وَرَدَ إلَيْهِ، فَإِذَا اكْتَفَتْ الْمَوَاشِي بِفَضْلِ أَحَدِ الْمَاءَيْنِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْآخَرِ.
الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ فِي وِرْدِ الْمَوَاشِي إلَى مَائِهِ ضَرَرٌ يَلْحَقُهُ فِي زَرْعٍ وَلَا مَاشِيَةٍ فَإِنْ لَحِقَهُ بِوُرُودِهَا ضَرَرٌ مُنِعَتْ وَجَازَ لِلرُّعَاةِ اسْتِقَاءُ فَضْلِ الْمَاءِ لَهَا، فَإِذَا كَمُلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ لَزِمَهُ بَذْلُ الْفَضْلِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ ثَمَنًا، وَيَجُوزُ مَعَ الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ أَنْ يَأْخُذَ ثَمَنَهُ إذَا بَاعَهُ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ جُزَافًا وَلَا مُقَدَّرًا بِرَيِّ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ.
وَإِذَا احْتَفَرَ بِئْرًا أَوْ مَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا ثُمَّ احْتَفَرَ آخَرُ بَعْدَ حَرِيمِهَا بِئْرًا فَنَضَبَ مَاءُ الْأَوَّلِ إلَيْهَا وَغَار فِيهَا أَقَرَّ عَلَيْهَا وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَهَا لِطَهُورٍ فَتَغَيَّرَ بِهَا مَاءُ الْأَوَّلِ أَقَرَّتْ.
وَقَالَ مَالِكٌ إذَا نَضَبَ مَاءُ الْأَوَّلِ إلَيْهَا أَوْ تَغَيَّرَ بِهَا مُنِعَ مِنْهَا وَطُمَّتْ.

.فَصْلٌ فِي أَقْسَامِ الْعُيُونِ وَأَحْكَامِهَا:

وَأَمَّا الْعُيُونُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَنَبَعَ اللَّهُ تَعَالَى مَاءَهَا وَلَمْ يَسْتَنْبِطْهُ الْآدَمِيُّونَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأَنْهَارِ، وَلِمَنْ أَحْيَا أَرْضًا بِمَائِهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، فَإِنْ تَشَاحُّوا فِيهِ لِضِيقِهِ رُوعِيَ مَا أُحْيِيَ بِمَائِهَا مِنْ الْمَوَاتِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَ لِأَسْبَقِهِمْ إحْيَاءً أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا شُرْبَ أَرْضِهِ ثُمَّ لِمَنْ يَلِيهِ، فَإِنْ قَصُرَ الشُّرْبُ عَنْ بَعْضِهِمْ كَانَ نُقْصَانُهُ فِي حَقِّ الْأَخِيرِ، وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِحْيَاءِ عَلَى سَوَاءٍ وَلَمْ يَسْبِقْ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا تَحَاصُّوا فِيهِ إمَّا بِقِسْمَةِ الْمَاءِ وَإِمَّا بِالْمُهَايَأَةِ عَلَيْهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَنْبِطَهَا الْآدَمِيُّونَ فَتَكُونَ مِلْكًا لِمَنْ اسْتَنْبَطَهَا وَيَمْلِكَ مَعَهَا حَرِيمَهَا وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي مِثْلِهَا وَمُقَدَّرٌ بِالْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَلِمُسْتَنْبِطِ هَذِهِ الْعَيْنِ سَوْقُ مَائِهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ وَكَانَ مَا جَرَى فِيهِ مَاؤُهَا مِلْكًا لَهُ وَحَرِيمُهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَنْبِطَهَا الرَّجُلُ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونَ أَحَقَّ بِمَائِهَا لِشُرْبِ أَرْضِهِ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْرَ كِفَايَتِهَا فَلَا حَقَّ عَلَيْهِ فِيهِ إلَّا لِشَارِبٍ مُضْطَرٍّ، وَإِنْ فَضَلَ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُحْيِيَ بِفَضْلِهِ أَرْضًا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِشُرْبِ مَا أَحْيَاهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ لِمَوَاتٍ أَحْيَاهُ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِأَرْبَابِ الْمَوَاشِي دُونَ الزَّرْعِ كَفَضْلِ مَاءِ الْبِئْرِ، فَإِنْ اعْتَاضَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْبَابِ الزَّرْعِ جَازَ، وَإِنْ اعْتَاضَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي لَمْ يَجُزْ.
وَيَجُوزُ لِمَنْ احْتَفَرَ فِي الْبَادِيَةِ بِئْرًا فَمَلَكَهَا أَوْ عَيْنًا اسْتَنْبَطَهَا أَنْ يَبِيعَهَا، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ثَمَنُهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَيَحْرُمُ ثَمَنُهَا.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو الزِّنَادِ إنْ بَاعَهَا لِرَغْبَةٍ جَازَ، وَإِنْ بَاعَهَا لِخَلَاءٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْمَالِكِ أَحَقَّ بِهَا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، فَإِنْ رَجَعَ الْخَالِي فَهُوَ أَمْلَكُ لَهَا.

.الْبَابُ السَّادِسَ عَشَرَ: فِي الْحِمَى وَالْأَرْفَاقِ:

وَحِمَى الْمَوَاتِ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ إحْيَائِهِ إمْلَاكًا لِيَكُونَ مُسْتَبْقَى الْإِبَاحَةِ لِنَبْتِ الْكَلَأِ وَرَعْيِ الْمَوَاشِي.
قَدْ حَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَصَعِدَ جَبَلًا بِالْبَقِيعِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ النَّقِيعُ بِالنُّونِ.
وَقَالَ: «هَذَا حِمَايَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْقَاعِ».
وَهُوَ قَدْرُ مِيلٍ فِي سِتَّةِ أَمْيَالٍ حَمَاهُ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ.
فَأَمَّا حِمَى الْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ فَإِنْ حَمَوْا بِهِ جَمِيعَ الْمَوَاتِ أَوْ أَكْثَرَهُ لَمْ يَجُزْ؛ وَإِنْ حَمَوْا أَقَلَّهُ لِخَاصٍّ مِنْ النَّاسِ أَوْ لِأَغْنِيَائِهِمْ لَمْ يَجُزْ.
وَإِنْ حَمَوْهُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ الْحِمَى خَاصًّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرِوَايَةِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَمَى الْبَقِيعَ قَالَ: «لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ».
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ حِمَى الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ جَائِزٌ كَجَوَازِهِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِصَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ فِي مَصَالِحِهِمْ.
قَدْ حَمَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالرَّبَذَةِ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ أَبَا سَلَامَةَ.
وَحَمَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الشَّرَفِ مِثْلَ مَا حَمَاهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ الرَّبْذَةِ وَوَلَّى عَلَيْهِ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ هُنَيُّ وَقَالَ: يَا هُنَيُّ ضُمَّ جَنَاحَكَ عَنْ النَّاسِ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَرَبَّ الْغَنِيمَةِ، وَإِيَّاكَ وَنَعَمُ بْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُمَا إنْ تَهْلَكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَرَبَّ الْغَنِيمَةِ يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا؟ لَا أَبَا لَكَ، فَالْكَلَأُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا: فَأَمَّا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ».
فَمَعْنَاهُ لَا حِمًى إلَّا عَلَى مِثْلِ مَا حَمَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِمَصَالِحِ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا عَلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَفَرُّدِ الْعَزِيزِ مِنْهُمْ بِالْحِمَى لِنَفْسِهِ، كَاَلَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُوَافِي بِكَلْبٍ عَلَى نَشَازٍ مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ يَسْتَعْدِيهِ وَيَحْمِي مَا انْتَهَى إلَيْهِ عُوَاؤُهُ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ، وَيُشَارِكُ النَّاسُ فِيمَا عَدَاهُ حَتَّى كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ قَتْلِهِ، وَفِيهِ يَقُولُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ مِنْ الطَّوِيلِ:
كَمَا كَانَ يَبْغِيهَا كُلَيْبٌ بِظُلْمِهِ ** مِنْ الْعِزِّ حَتَّى طَاحَ وَهُوَ قَتِيلُهَا

عَلَى وَائِلٍ إذْ يَتْرُكُ الْكَلْبَ نَابِحًا ** وَإِذْ يَمْنَعُ الْأَقْنَاءَ مِنْهَا حُلُولُهَا

وَإِذَا جَرَى عَلَى الْأَرْضِ حُكْمُ الْحِمَى اسْتِبْقَاءً لِمَوَاتِهَا سَابِلًا وَمَنْعًا مِنْ إحْيَائِهَا مِلْكًا رُوعِيَ حُكْمُ الْمَحْمِيِّ، فَإِنْ كَانَ لِلْكَافَّةِ تَسَاوَى فِيهِ جَمِيعُهُمْ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ وَمُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ فِي رَعْيِ كَلَئِهِمْ بِخَيْلِهِمْ وَمَاشِيَتِهِمْ، فَإِنْ خُصَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ اشْتَرَكَ فِيهِ أَغْنِيَاؤُهُمْ وَفُقَرَاؤُهُمْ وَمُنِعَ مِنْهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ؛ وَإِنْ خُصَّ بِهِ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ مُنِعَ مِنْهُ الْأَغْنِيَاءُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ الْأَغْنِيَاءُ دُونَ الْفُقَرَاءِ، وَلَا أَهْلُ الذِّمَّةِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ خَصَّ بِهِ نَعَمَ الصَّدَقَةِ أَوْ خَيْلَ الْمُجَاهِدِينَ لَمْ يُشْرِكْهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ ثُمَّ يَكُونُ الْحِمَى جَارِيًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ.
فَلَوْ اتَّسَعَ الْحِمَى الْمَخْصُوصُ لِعُمُومِ النَّاسِ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهِ لِارْتِفَاعِ الضَّرَرِ عَمَّنْ خَصَّ بِهِ، وَلَوْ ضَاقَ الْحِمَى الْعَامُّ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ أَغْنِيَاؤُهُمْ، وَفِي جَوَازِ اخْتِصَاصِ فُقَرَائِهِمْ بِهِ وَجْهَانِ، وَإِذَا اسْتَقَرَّ حُكْمٌ لِحِمًى عَلَى أَرْضٍ فَأَقْدَمَ عَلَيْهَا مَنْ أَحْيَاهَا وَنَقَضَ حِمَاهَا رُوعِيَ الْحِمَى، فَإِنْ كَانَ مِمَّا حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْحِمَى ثَابِتًا وَالْإِحْيَاءُ بَاطِلًا وَالْمُتَعَرِّضُ لِإِحْيَائِهِ مَرْدُودًا مَزْجُورًا لاسيما إذَا كَانَ سَبَبُ الْحِمَى بَاقِيًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَارِضَ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَقْضٍ وَلَا إبْطَالٍ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ حِمَى الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ فَفِي إقْرَارِ إحْيَائِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يُقَرُّ وَيَجْرِي عَلَيْهِ الْحِمَى كَاَلَّذِي حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ حُكْمٌ نَفَذَ بِحَقٍّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُقَرُّ الْإِحْيَاءُ وَيَكُونُ حُكْمُهُ أَثْبَتَ مِنْ الْحِمَى لِتَصْرِيحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ».
وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي عِوَضًا عَنْ مَرَاعِي مَوَاتٍ أَوْ حِمًى لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَإِ».